السبت، 5 يوليو 2014

ورم الــطـبّـال الـقـديـم (..2)


   كنت اتابع حديثها مشدوها بألفاظه المتشعّبة و التي تميل الى الرّمزية و الايحاء أكثر منه الى التعبير المباشر حيث لم أفهم الكثير ممّا قالته متهكمة او مستفزّة للحاضرات السّامعات، كانت كزيتونة معمّرة واقفة و ثابتة لا تتمايل و لا ترتعش رغم سنينها المتقدّمة و شيخوختها الظّاهرة في تجاعيد رقبتها و ذبول لون الوشم على وجنتيها و أعلى حاجبيها اتّسع ثقب اخراس اذنيها و تدلّى خرس فضي اللّون و المعدن حتى كاد يلامس أعلى كتفها ، و لفّ رقبتها عقد "سخاب " العنبر الاسود فتناغم بياضها بسواد العقد و انبعثت رائحة العقد تذكي الانوف الصّافية الدّقيقة الشمّ ،و تدلّى على خدّها " سالف " أو أو خصلة شعر تميل الى حمرة برتقالية بفعل الحنّاء ، و تحمل في معصميها اساور فضّية وفي أصابع يدها خواتم من الفضّة و الذهب ة على ذراع يدها البسرى اشكال من الوشم الذابل من سطور متقطّعة و دوائر  و نجوم و أهلّة و اشكال بربريّة معروفة عند الواشمات.
   نظرت اليهنّ و قد لاحظت تهامسهنّ و ايحاءات التندّر و التأفّف من حديثها ثم قالت: ايه .. زمن معكوس  الحائرات امثالكنّ يمتن بعلتهنّ و لا يدرين من الدنيا و الحياة شيئا، نعم تزوجت " ولد بن سالم" و انا لا أحبّه و بكيت كثيرا في أول ايّام زواجي منه، كان رجلا كريما و شريفا و واسع الصّدر ، لم يضربني و يذلّني الى أن مات عليه رحمة الله ، اتمنى من الله و منه أن يغفر لي ما سببته له من ازعاج في سنوات الزواج الاولى ،  فقد نشزت
و تركته و بتّ وحدي لأشهر فلم يغضب و لم ينهرني  و لم يتبرّم منّي الى ان جاء يوم قال لي فيه : يا بنت النّاس حفظتك و رفعتك و دلّلتك و لم اشتك منك لأحد ، كتمت سرّي و انتظرت فرجا شافيا ، لكنّ تبيّن لي أنك عازمة في أمرك و انه لا رجاء في شفاء مرتقب ، فانظري جيدا في أمرك و اخبريني فان رأيتِ أن أعيدكٍ الى أهلك فسأفعل  و الله يخلفني غيرك فالكثيرات يتمنينني بعلا و رجل بيت لهنّ سأمهلك ما استطعت قبل أن ينفذ صبري ثمّ أقرّر في امرك ما يقوله العقل ....

  " وِلْدْ بنْ سالمْ" رجل و نصف يزيد عن الرّجل ، لا يُعابُ منه ما يُعَابُ في الرّجال ، تكتّم عنّي و لم يخبر أبي بأيّ شيء ، كان يعلم أنه لو أخبره  بما يحدث حقّا بيننا فسيقتلي كما سبق و ان هدّدني منذ أن كنت فتاة ببيتنا ،لم يرتض لي الموت و الفضيحة أو اهانة عرشي امام العروش الأخرى...  في لحظة صدق مع نفسي فهمت و عرفت كم سبّبت من ألم و وجيعة لرجل جواد كريم رحب الصدر جميل الخلق و الاخلاق و كم كنت  أنانية و عير أهل لكرمه ، طهر " ولد بن سالم" الله يرحمه أنه يضاهيه في كل شيء و يفوقه في بعض الاحيان إلاّ في الغناء و ضرب الطّبل و ترانيمه الليلية فقد كانا يختلفان، كان يميل الى قلّة الكلام كأيّ رجل وقور لا يتحدث الاّ اختصارا و ليس كثير المطالب و قنوعا و عمود بيت قويم و سليم و فحلا ترتضيه كل امرأة حرّة.

 

 في يوم خميس على ما أذكر، في يوم ربيعي ، عاد للبيت كعادته

 و قد كان يحشّ و يجمع الاعشاب لعلف الابقار لشتاء قادم، عاد منهكا و فقد خرج منذ الصباح الباكر للعمل بالأرض البور،لمّا و صل استقبلته ببيته كما تستقبل اي زوجة بعلها ، و كنت تحمّمت و تسوّكت و تعطّرت و و ضعت "سخابي" هذا الذي اهدتني ايّاه أمّه رحمها الله ، كنت انتظر ان يفاجئ بشكلي او مظهري و ان يسألني او يطلب شيئا منّي لكنه اشاح عنّي بوجهه و تجاهلني كأننّي لا شيء أمامه، شككت في كل شيء ، في جمالي، في رغبته فيّ ، في حسن اختيار عطري و ملابسي في ....  عندما اغتسل و تبرّد و ضعت المائدة أمامه ، دفعها بعيدا برفق ،  كانت سحنة وجهه متبدلة على غير عادتها ، كنت اظنّ أنه سيفرح لما يراني في اجمل حلّة و بكلّ هذا التجمّل الذي ابدو عليه  لكنني لاحظت امتعاضا و سوء قبول منه ، نفذ صبري، سالته : ما بك يارجل ؟ انت قلق و على غير عادتك كنت تبتسم في وجهي كلما عدت للبيت ، نظر في عينيّ بكل برود و قال : أراك في ثيابك الجديدة ، هل قرّرتي العودة نهائيا لبيت أبيك ؟ ألم أقل لك تريّثي قليلا ما دام لم ينفذ صيري عليك ؟ ان كان نعم فسأوصلك اللّيلة الي بيت والدك ،  لا أريد أن يكون هذا في وضح النّهار لاتجنّب شماتة الناس فيّ و في والدك ... أشعر بمرارة في حلقي و لا رغبة لي في الاكل ، دعيني أنام فأنا منهك و اجمعي حليّـك و ما يتعلق بك و سأوصلك اللّيلة ...


°°°°° يُتْبَعُ ...

الحلاج ....

صيف 2014

النص (1)
https://www.blogger.com/blogger.g?blogID=8733706823267635351#editor/target=post;postID=4379232545842125707;onPublishedMenu=posts;onClosedMenu=posts;postNum=1;src=link

الأحد، 22 يونيو 2014

ورم الطبّال القديم ..

                    

سأذبحك من الوريد الى الوريد ...
و الله لن تأخذني  بك رأفة ، ماذا سيقول عنّي الناس ؟ أنا أحمد الأسد الأصفر ازوّج ابنتي الوحيدة من رجل يقتات من ضرب الطّبل في الأعراس ... له الحقّ ان يضرب الطّبل  و أن يغنّي في أعراسنا لا أن يتزوّج بناتنا، أنا لا ازوّج ابنتي من طبّال، انبّهك مرة أخيرة و الله لو سمعتك تزغردين و هو يغني في أيّ عرس تحضرينه لأقطعنّ لسانك و بلا شفقة ، أنا لا أعيد تهديدي ، أنا انفّذ مباشرة بعد التنبيه الأول، أمك تعرف هذا جيّدا و فهمت درسها من منذ اليوم الاول لزفافي.
هكذا قال لها ابوها منذ ما يزيد عن ستّين سنة ...
بكت و لطمت وجهها ، كانت تحبّه و كان يحبّها، لم يشفع لها بكاؤها، رفضت الزواج الاول و الثاني، في يوم قائض اتاها ابوها على غير عادته مزمجرا و متوعّدا و قال لها في لهجة صارمة: غدا سيأتي صديقي من جهة "اللّاس" و سيخطبك لابنه ، هو صديق العمر و من عائلة شريفة و غنيّة ، فلاّح معروف و صاحب رجولة و شهامة و جاه، و الله لو رفضت هذا الزواج لأفرغنّ رصاص البندقيّة في صدرك ...فترتاحين و ارتاح ، سمعت ما قلته جيّدا ؟ غدا ستقبلين بابنه زوجا كريما. صمتت و اصفرّ وجهها  و فكّرت طويلا في الامر،
و خامرتها فكرة الهروب من منزل والدها ... لكن الى اين ؟ هي لم تغادر في حياتها قط بيت ابويها و لا تعرف الاّ بيت خالها ، لو ذهب البه هربا من ابيها سيقتلها بدوره، بنت الاخت هي الاخت و لا يمكن ان تكون مجلبة للعار لقبيلتها.. طردت الفكرة من رأسها، و عاودها تخمين جديد ، ماذا لو أفرغت رصاص البندقيّة في صدرها و هكذا تنهي المعضلة برمّتها ، لكنها لم تطلق النار يوما، و ستموت أمّها كمدا لو حصل هذا...
عانقتها امها لمّا فهمت ان شرّا يدور في رأسها ، هي ابتها الوحيدة ، ابنتها المحبّة العنيدة الجامحة ، قبّلتها من قدمها ، و بكت بحرارة الأم العارفة لمدى عشق ابنتها العاشقة للطبّال صاحب الصوت الشجيّ الذي يبكي النساء تارة و يضحكهن تارة اخرى و يعدّل مزاج الحاضرات في الاعراس كما يشاء ، و له قدرة على بسط نفوذه الغنائي على جميع الحاضرين.
عانقتها عناقا حارّا و قبلتها من قدميها و طلبت منها ان لا تعصي أمرا لأبيها لأنها لو فعلت قد  يقتلها ، و عدّدت محاسن أهل زوج المستقبل و وعدتها انها لن تتركها حتى يفرّق الموت بينهما ..
نظرت في وجه أمّها و قالت: أتعلمين أمّاه ماذا غنّى آخر مرّة حفل ختان " عمّي العروسي" قالت امها و الله يا بنيّتي نسيت و لم يعد يستهويني الغناء اصلا منذ علمت انك تحبّينه، كرهت الاعراس و العناء و الضرب على الطبل. سال الدّمع من عينيها ثم قالت سأغـنيك آخر ما عنّى انصتي جيّدا:
 العيُونْ عيُوني ..
يا للَّا..
كي نبكي
 آشْ يسالوني ..
°°°
العُيون سَحَابا
يا للَّا..
العيونْ سَحابا
انا نبكي
عذّبني بَابَا
°°°°°
العيون ذبيلةْ
يا للَّا..
العيون ذبيلةْ
كي نبْكي
ما عندي حيلةْ
أتعلمين أماه ؟ لقد كان يغنّي لي وحدي ، لم يلتفت لجمع النساء، لم يفعلها قطّ من قبل ، أتعلمين أمّاه لماذا؟ لأنّه كان يغنّي و يبكي ، نعم، أحسست بشهقة في صدره و غصّة في حلقه... فقد الكثير من صوته و كان ضربه على الطبل عنيفا ليخفي غصّته و يتسر على دموعه... لقد غاروا منّي ، اكلتهم الغيرة و لم يزغردوا كعادتهنّ ، خفت أن أزغرد لوحدي فيعلم أبي و يقطع لساني.. لقد أقسم على هذا مرة و اكتفى بقسمه .
حدث هذا لمّا كانت في ريعان شبابها منذ ستين سنة خلت، غضّة طريّة و جريحة القلب،  لم تفسخ السنون كلها سطرا واحدا من قصّتهما.. بل مازادت هذه السنوات الا شوقا على الشوق.. تحبّه كما حدث منذ ستة عقود كما كان يغني أغـنية لها في كل عرس يحضره و يبكي كما كان يبكي منذ سنّ الشباب.
كنت صغيرا لم اتجاوز العشر سنوات لما سمعتها تحكي قصتها للنساء و قد تجاوزت الثمانين حولا... و كان النساء يتهامسن خلسة و يظهرن اهتماما مفتعلا لما تروي لهم قصّة الحبّ التي صاحبتها لأنهنذ سبق لهنّ سماعها في عرس تقريبا حتى حفظن القصة عن زهر قلب....
كنت اتابع حركاتها و سكناتها و كنت الوحيد الذي يسمعها و لا يقلقه ان تعيد الحكاية من اولها لأنه و في كل مرّة تحذف و تزيد تفاصيل جديدة مشوّقة ...
++++++++  يتْبَعُ ...
الحلاّج.

أحداث القصّة و ابطالها حقيقيون لكنّني سوف اعيّر الاسماء لأتجنّب  احراج البعض من عائلتيهما. 

السبت، 7 يونيو 2014

كالــصّــفــر,,,أُنْقصُ و أزيد.

لوحة ثانية.

°°°°°°°°°°°°°°

كالصّّفـر ...

أقعُ على يسار القلب ...
لا أُضِيفُ و لا أنقصُ
لا أمحو جرحا 
 و لا أزرع فرحا ...
و لا أصير سكّرا
و لا دنانا مُسْكِرا
و كي تنام هادئة 
اصطدم بنهدها
و أغرقُ في دفئها
و أصير لوْلبيّْْ

و خاتما فضّيّْ
أدور حول عنقها ..
 اخلع قفْل عقدها
في ليلة بيضاء.
°°°°°
الحلاّج ..

الخميس، 29 مايو 2014

مـــا للـشّــاعر..



للشّاعر حقّ زرْع القصائدْ 
..و نَثْر الحروفْ 
و للجرح دور كتْم المواجعْ
.. و حقّ النّزيفْ
    ****
للشّاعر غزوته و الحليلهْ 
له ما تبقّى من نسج طيف 
...و هودجها 
 و نوق القبيله 
و له البحر و المرْكبُ و الجديله 
و له الحقّ أن يغازلها ليلة بعد ليلة 
و أن يدفع مهرها
 شعْرا و نثْرا 
و سرّجا و مهرا 
وخمْرَ الخميلة
****
للشّاعر ما لا يطاقْ
له الوجعُ و الاحتراقْ
له شامة خدها
و ريحان زندها
و له وهج الاشياقْ
و دفء العناقْ
****
للشّاعر وردته
و له القول و الفعل 
و له حقّ امتشاق السيوفْ
و نثر الحروفْ
و جمع القبائل
و نشر الرّسائل
و شقّ الصفوفْ
***

...الحلاّج 
مارس  2014

الاثنين، 26 مايو 2014

زرقة بحر ... و موعد .

زرقة بحر ... و موعد


أفــكّر في الشئ وضدّه ، تارة أنا المطرقة و تارة أخرى أنا السّندان إمّا أن أضْرٍبَ أو أُضْرَبَ، لا يوجد الّا هذا الفراغ الرّهيب بينهما فلا تفكّري فيما أفكّر، أنت عاشقة اللاّشيء و ماسكة الغيم، ستلهيك أشياء لا معنى لها ، كأن غشّك بائع السّمك و باعك حوتا عديم أو كأنّ الوردة التي أهديتك إيّاها لم تصمد إلاّ يوما واحدا و أنتهت للذبول في الغد، ستلهيك نكهة قهوة نصف باردة و علبة السجائر التي ستنفذ بعد حين، سيلهيك عبث الصبيان في الشّارع المقابل و جارة تسألك عن ثمن فستانك وعن من هيأت صبيغ شعرك ، ستجدين راحتك في هذا العبث و سأفكّر في الشيء و ضدّه.. هل عليّ أن أحبّ أم عليّ أن أكره ،هل عليّ أن أغادر المسرحيّة او أظل أتـــابع وحدي الفصل الأخير ؟ دعيكي من السجائر الآن و انظري في عينيْ، أتريْنَ أثرأ للوجع ؟ قالوا لي أنّك ذبلت و ذبلت معك مقلة العين و لم تعد تصلح لطيّ الطريق ، قالوا لي أيضا أنّني مسيء في اختيار لون الورد و مساحات العشق التي كان يجب أن أستولي عليها من الأوّل ، من أوّل قصّة عرفتها و أنا شابّ يافع لي  ما شئتُ من الاختيار ، قالوا لي أيضا أن الوفاء في الحبّ سمة سمة الأغبياء و قالوا لي كلاما جارحا يمنعني الخجل عن ذكره... هل كنت بحقّ هكذا ؟ أصدقيني القول و سأهبك وردة لا تذبل هذه المرّة و حبّا بلاستيكيا يتمطّط كبضاعة صينيّة مقلّدة... فهمتي لماذا أفكّر في الشّيء و ضدّه ؟ أنا بين النّقاء و الصّفاء و الطّيب و بين التهتّك و القذارة و النّجاسة.. كم هو مرّ أن أكون هكذا دونما  سبب مقـنع سوى أنّني متعب بخيبتي و بنحيب الحمام ... قالوا لي أنّك رجل مُتْعٍبُُ و أنّني قد أُتْعِبُ من معي ..

فقـرة من " زرقة بحر .. و موعد " 
الحلاّج .
ماي / آيار 2014 (تونس) ...

الثلاثاء، 20 مايو 2014

الــعــازف

العازف ..

ّّ*********

يا صاحب الكمان 

يا مبكي الوتر ْ

ْيا سيدي المفتون 

يا مانع الضجرْ

اذا قضيت  وتْرك َ

اذا داويت جرحك 

اذا غسلت حزنك 

و ملت للبياضْ

كقطنة الحلاّج

فاعزف لي ما شئت 

ما يملأ الفنجان

و اذكر لي ما شئت

من غابر الأوزان ْ

يا صاجب الكمانْ

يا متْرَع الأحزان 
أنا حزين مثلك 

يا صاحب الأحزان 

يا عازف الكمان

2014 الحلاّج...ماي / آيار

السبت، 17 مايو 2014

ثـلج الكـاف الـدّافئ


يا " أمّ الزّبن" لم يكذب حدسي إلاّ قليلا، لست نبيّا أو أحد أولياء الله الصالحين و لا أومن بالكرامات و المعجزات و لم أتقرّب في حياتي الى شيح دين أو صاحب كرامة او كنت من هواة التمائم لكن حدسي كلما احتجته كان صادقا و في عادتي لا احتاجه إلاّ قليلا لأن كل الاشياء واضحة أمامي و لا تتطلّب تخمينا و لا زاد عرّاف و لا شعوذة " الوقّاعة" ، الأمر جليّ و واضح كشيبة ناطري هذه التي نبتت دون اذن متّي و التي رسمت خيبتي الاولى ، يا " أمّ الزين" إن حدسي لم يكن مبنيّ على رؤية رأيتها في المتام أو على هاتف مجهول أتاني في ظلام الليل بل على خيوط و دلائل و آثار لا ريب لي فيها ...يا " أمّ الزين " انّ ابنتك غرقت في بحر حزنها و ان عقمها أفقدها حبّها للحياة فلا تزعجيها بتعاويذك و لا تقلقي راحتها بكل هذا الكمّ الهائل من خليط الأعشاب .. يا " أمّ الزّين" احضني ابنتك فهي تحتاجك لأمثر ممّا تحتاجني و تراك مستودع همّها و عمقها الدفين لأنّا فتراني رجل عابر يميل الى السّكْر تلرة و يعاكس النساء منى عنّ له الخمر و دعاه الى ذلك ، أو رجل لا ينتبه اليها الاّ آخر الليل أو كلّما شعر بالغربة . كم من مرّة حاولت أن أضيء ركنا من أركان صدرها الدّاكن و أن اشعل شمعة تضيء ظلام عينيها و لم انجح . يا "أمّ الزين" انّني رجل من عادته أن لا يصمد أمام جبل كامل من البياض و الجمال و الحضور المبهر و الانوثة الصاعقة ، لكنّني كل ليلة أجد نفسي أمام هوّة عميقة تفصلني عنها و تجعلني كصنم فرعوني لا حياة فيه رغم ضخامته، يا " أمّ الزين" ليلة و ضعت يدي على صدرها شهقت شهقة واحدة و احسست أنذ يركانا في صدرها على باب الانفجار الكبير.. فكفّي بربّك عن التعاويذ و الشعوذة الفارغة و انتصتي الى ابنتك مثلما أفعل أنا كل ليلة فأنّني أحسّ أنها في حاجة لمن يسمعها فقط .. فقد كانت تبحث عنّي ليس لنزوة أو غواية انّما ليسمعها رجل تثق فيه ...



الحلاّج...
فقرة من سلسلة " ثــلــج الـكاف الـدّافـئ "




الحلاّج...
فقرة من سلسلة " ثــلــج الـكاف الـدّافـئ "

ســـهــوُُ .




 لم أنتبه أنّني كنتُ الذّبيحْ
و أن من قطف الزّهور من حدائق وردنا
حوّلها ضريحْ
و أنّ النائحات في مآتم ليلنا
رغم نحيبهنّ في ليلة عرجاء غاب نجمها
أشبعننا بكلّ أصناف المديحْ
فهل استرحتِ كيْ أستريحْ ؟
و أصير ما شئتُ من الأنباء و النشرات
أو بحرُُا و ريـحْ
و وضّاحا في اليمن الشّريد
و إكليلا و شيحْ
لم أنتبه أنّني كنتُ الذّبيحْ ... 
لم أنتبـهْ
أنّني نمت على فراش من صفيح ْ



..الحلاّج ... صيف 2012 

الخميس، 15 مايو 2014

ثـــــلــج الــكـاف الـدّافئ



صدقني جرّبت كل شئ  و أكلت ما املته عليّ النساء من الأعشاب و أنواع النباتات، ما ينبت في الكاف و في خارجها، اكلت عشبا  قيل أنّه ينبت في أرض المغرب ، دفعت سوارا من الذهب المعيّر الرفيع ثمنا لنبتة وحيدة من المغرب ، أكلتها كما اوصتني أحدى العاقرات مثلي التّي ادّعت أنها أنجبت بعد أن أكلتها ثمّ اكتشفت بعد سنة أنّها نصّابة و تعمل مع عصابة تمتهنُ الدّجل و التّلاعب على حبل آلام النّاس ، أكلتها مدّة ثلاثة أيام ، تقرّح فمي، و أُصبْتُ بالتهاب في اللثّة و بأوجاع في المعدة و حلات قيء شديد .. كدتُ أموت ، و كاد تقتلني الحرارة وشدّة الغثيان ، صَبرتُ ، قلت هانت مادمت سأنجب له ولدا أو بنتا  و " لأم الزّين" حفيدا أو حفيدة، في يوم من الأيّام قالت لي أمّي تصبّري و تحمّلي يا بنيّتي فهذا الألم لا يعادل نصف ألم المخاض، ابتسمت في وجهها و قلت لها هانت يا أمّي ما دمت سأصبح أمََّـا و سيراني حاملا لأثر من صلبه. هل تعلم ؟ أكلت ذيل أفعى أو ثعبانا مشويََـا، غلّفتها ب"البسيسة" في شكل مكعّبات صغيرة و وضعتها في العسل و الزّيت و أفطرت عليها مدّة ثلاثة أيام ، قيل لي أن ذيل الثعبان مشويا يذهب السّحر و يدرّ الحيض و ينعش الرّحم ، لذلك أكلت دون تردّد، و كانت شجاعتي لا تضاهيها شجاعة أيّ امرأة في الدّنيا ، انتظرت انقطاع الحيض و بوادر الوحم و لم يحدث هذا، كذّبوني و قالوا لي أنك لم توا ضبي على الافـطار في نفس المواعيد أو أنني لم أتناول الدّاء و تظاهرت بأكله ، أقسمت لهم بأنّني صادقة ، لكنّ لم يصدقني أحد من أهله و لا حتّى هو زوجي الذي كنت أظنّ أنّه سندي ، الوحيدة التي صدقتني هي " أمّ الزّينّ" حفظها الله ، كم بكتْ و كم تحمّلت معي ألمي و عذابي.
صدّقني جرّبت كل شيء قالوا لي جرّبيه للشّفاء من العقم ، فعلت كلّ شيء بحذافره ذون سهوِِ أو نسيان، أتصدّقني أنت أم أنك مثلهم ؟ قل، مالك صامت أتصدقني؟ ... شربت دواء مرّا كالحنظل حتّى أحسست أن حلقي ذاب ، و شربت على خواء ماء العـود الحارّ حتى اشتعل بطني كمجمار فحم، توسّدت التّمائم و قرأت أيات "الكرسيّ" و أعدت قراءتها مدّة ما بين العيدين حتى حفظتها عن ظهر قلب، هكذا قال لي شيخ أحد الزّوايا بعد أن دفعت له أجرة شهر كاملة التي سلمني ايّاها طليقي لتغطية مصاريف البيت و حاجياته..  
أتصدّقتني ؟ جرّبت كل شيء إلاّ أن أخونه في عرضه ... فيي يوم من الأيام قالت طبيبة علاج العقم أن العيب منّي و أنّني لن أنجب و أنّ عليّ الامتثال للأمر الواقع، لم أصدّقها، قلت إنّها كاذبة ، فعمّتي قالت أنّني سأكون ولُـودا... نعم، أغـمي عليّ يومها لكن لم أصدّقها.
تكلّم مالك صامت كالجلمود و فاغر الفم هكذا، كأنّي أحكي مع الباب و الطّاولة، هات يدك ، ضعها على بطني ، أتحسّه باردا كجبل من ثلج ؟ أيعقل أن أكون عاقرا؟ لماذا ابتلاني الله من دون ألاف النّساء بالعقم؟  آآآآآه ... لو وهبني الله ولدا واحدا لزهدت في الدّنيا و في الرجال... يالكم من رجال، استثني أبي فقط . و أنت ؟ هههه.. كنت استثنيك مثله في يوم مّا  لكنّني اكتشفت أنّك مثلهم ... اكتشفت و يال خيبتي أنّك لا تفوقهم في شيء ، أنت مثلا لا تملك الشّجاعة اللّازمة لتزورني في النهار و أمام عيون الناس، لا تزورني إلا لمّا يطبق عليك السّكْرُ و يكون ليل و يكون ثلج، لماذا؟ هل كثير عليّا أن يزورني رجل في النهار و استقبله بالأحضان و حتى بكانون من البخور شماتة في الحاسدات من جاراتي؟ أهنّ أجمل منّي أم أقدر منّي على ترتيب بيت و تصنيف طعام و إدارة بيت الزّواج ... اقتربْ منّي و شمّني، هذا صدري، قلت شمّني هل تنكر رائحة قبيحة منّي ؟ لا أريد منك إلاّ الصّـدق فقـلْ الحقيقة برأس أمّك ، و الله لن أغضب منك حتى لو انكرت منّى شيئا ، من يدري لعلّ بي عيب زيادة على العقم هذا إذا كانم العقم عيبا ... قاضي المحكمة قال لي أنّ بي عيبا و لما سألته ما عيبي يا سيّدي ،  قال لي أنه من حقّه أن يكون له ابناء ...
قالت لي " أمّ الزين" يوما ، يا بنيّتي إنّ طالع السّوء يتبعك منذ طفولتك فلولا لطف من الله لأصابك عور .. لقد حسدوك في جمال عينيك ، فعندما كنت في الثالثة من عمرك سقطتي على وتَــد معدني في الارض و نزفت عينك دما و خفت على عينك من يصيبها العماء فتدبت وجهي و تضرعت الى الله أن يحمي عينك فاستجاب لي و نجت عينك  بعد أيّام من هذا الحادث المرعب... تحسّسْ حاجبي ، جسَّ قوس العين ، ألا تلاحظ آثار جرح قديم غائر ؟ هو ذاك الذي كاد أن يفقـدني عيني...
البارحة أكلت قليلا و الليلة لم تأكل إطلاقا، ألا يعجبك طبيخي و اعدادي للطعام ، أكانت تعدّ لك الطعام أحسن منّي ؟ أجبني مرّة واحدة فقط فقد قتلني هذا الصّمت، كأنّني أحكي مع الجدار ... و الله لن أعفر لك تجاهلك لي يوم زيارتي لك و هذا الصّمت المزعزع الذي تظهره ... قل أيّ شيء يا رجل ، الليلة لست سكرانا حتى اساعدك على غـسل أطرافك ، هذا الماء السّاخن و هذه منشفة الساقين و هذه منشفة اليدين و الوجه و هذا عشاؤك على المائدة ، افعل ما تريد فإن " أمّ الزين   تنتظرني بالبيت ...


الحلاّج ....
فقرة من سلسلة " ثـلج الكـاف الـدّافئ "    

الاثنين، 12 مايو 2014

ثلج الكاف الدّافئ



ماذا دهاني لأنقر على كتفك تلك الليلة ؟ أنا التّي بدأت و أنا التي أساءت التّقدير، قد تكون ثقة عمياء في النّـفس ، في شعري المتهدّل ليلتها على كتفيّ كأنّه اللّيل ، في بياضي، كأيّ امرأة عاقر لا تصلح للإنجاب
و لا تصلح للحبّ ، الانجاب؟ أعرف أنّك لا تعرف وجع امرأة عاقر ، هات يدك ، قلت هاااات يدك ، لا تخفْ لن أعضّها لم أعضض يد محبّ صادق امتدت لي أبدا، كنت اتمنّى لو فعلتها يوم زرتك في مكتبك،  ضعْ يدك على بطني ، ضعْ يدك لا تخفْ قبل أن تنتبه " أمّ الزّين" ، مالك مرتبك ؟ و الله لن أبات ليلتي معك حتّى لو انطبقت السّماء ، أقسمت على هذا منذ زمن، بعد أيّام من زيارتي لك ، لن أشارك رجلا فراشا يراني فيه عاقرا، ضعْ يدك على بطني ، رأيتْ ..؟   أأحست بعقمي ؟ أيعقل أن يكون بطني قـفرا و خرابا و أن يصير رحمي جدبا و ارض بور ؟ المسْ صرّتي ..هههه . عمّتي قالت في يوما مّا و أنا بنت الثمانية عشرة ربيعا و قد كنت اشاركها الاستحمام في حمّام " بن عنين "  قالت أنّني سأكون ولود ، يال الحظّ التّعس... سألتها: كيف عرفتي هذا يا عمّتي ؟ قالت انّ دائرة صرّتك كبيرة و منغرسة في جوفك و هذا دليل على أنّ بنت أخي ستكون ولاّدة و أمّا للبنين و البنات ... فرحتُ يومها و قبّلت عمّتي و أقسمت على أحمل سطل الماء وحدي و فركت جسدها بمحكّة نباتيّة جديدة  حتى احمرّت كحبّة الطماطم ثمّ مشطت شعرها الطويل برفق حتى لا اتسبّب لها في ألم ثمّ جففت جسدها و ناولتها قنينة الكحل و سلكا من السّواك فتزيّنت كأنّها عروسة و ظهرت قسمات جمالها الأخّاذ رغم أنّها في الخمسين من عمرها . همست في أذنها هوف أن تسمعنا المستحمّات من النساء " سيفرح عمّي البغدادي عندما يراك على هذا القدر من الجمال يا عمّتي"  ابتسمت اوّلا ثم بعد برهة من الزّمن تداركت الأمر فصفعتني و قالت : ألا تستحين يا فتاة ، من لقنك هذا الكلام ؟  بقيت آثار أصابعها على خدّي، لكنني لم أغضب منها ، كان يجب عليها أن تصفعني لوقاحتي و جرأتي ، بقيتُ صامتة و لم أنبس بكلمة ، استادرت عمّي    و قبّلتني عن الخدّ المصفوع و قالت : اعذريني يا بنت أخي ، غضبت منك ، يجب أن تحترمي فارق العمر بيني و بينك، فقط أريد أن أقول لك أنّ عمّك البغدادي لم ينم في فراشه منذ شهور، بالضبط منذ أن ذهب الى الحجّ و عاد ، فارق الفراش . كنت اودّ أن أسألها عن السّبب لكني خفت أن تغضب ثانية . ضعْ يدك على أسفل بطني ،أيُعْقلُ أن يكون هذا البطن قـفر أين ذهبت فراسة عمّتي و كيف لم تنتبه الى أنّني امرأة عاقر و هي التي أنجبت ما شاء الله من البنين و البنات... اخفضْ يدكَ لا تلمسْ إلاّ بطني و دائرة صرّتي، هل ترى فيّ عيبا ؟ طبعا سترى هذا و تصمت ، أنت لا تبحث هذه اللّيلة إلاّ على إرضائي ، سأحرّم نومي معك فأنت رجل لا يصلح أن ينام مع امرأة بيضاء البشرة... لماذا رفضت الرّقص ليلتها ؟ أكنت حقّا لا تجيد الرّقص؟ لماذا يوم أتيتك لم ترفع عينك في وجهي ؟ كنتَ تخافها ام تخافني ؟ ظهرت زميلتك بعد سمعت وقع حذائي الصّيفي على البلاط ، مشْية نسائية موزونة .. طقْ طقْ طقْ ، حملقتْ فيّ طويلا ، ثم سرقت النّظر، و ظهرت غيرتها، لاحظت هذا على وجهها عندما عكست مرآة الرّواق سحنتها، كنتُ و لا زلت أجمل منها و أطول قامة رغم أنّني أفوقها في السنّ و مطلّقة و عاقر .. الزواج لا يُذْهبُ جمال المرأة ، فقط العقم أذبلني و الشّمس الحارقة أكلت من جسدي الأبيض الرّقيق.. ارفعْ يدك الآن و لا تعد للمْس بطني ، أنا التّي أمنع و أسمح لا أنت ... ستبات يتيما في فراشك لليلة الثالثة .. أنا امرأة لا تغفر و لا تنسى ...

الحلاّج ....
فقرة من سلسلة " ثلج الكاف الدّافئ "

الخميس، 8 مايو 2014

زرقة بحر .. و موعد .. التصّ المنسي






عندما أغمضت عينيها التحم الرّمش الأسفل بالرّمش الأعلى ليرسم خطّا مستقيما أفقيا يمتدّ من حدود التقاء حاجبها و أعلى أنفها إلى مستوى الصدغ، كان طرف رمشها يميل الى الأسود الكحيل بينما يميل جذع الرّمش إلى الأصفر الذّهبي، ربّما يكون هذا اللّون هو اللّون الأصلي للرّمش لكن تمازج اللّونين الأسود الحالك ومن تحته الأصفر الذهبيّ ولّد مشهدا يشبه شعاع الشّمس الذّهبي من تحت سحب داكنة إبّان غروب شتوي، نعم كان يشبه هذا الغروب تماما، كان يريد أن يمتدّ المشهد إلى ما أبعد، إلى ما وراء الشّمس، إلى الذي يدور في مخيّلتها إلى ما لا يجعل الشّمس تغيب تماما، كم كان يكره الظّلام بعد الغروب الشّتوي و كم كان يشعر بالعجز؟ العجز على أن يمنع شّمس الشّتاء من المغيب، شعر ببرد يلفّه عندما تمازج المشهد الشّتوي لغروب الشّمس الذي سحره منذ صباه و الذي تأمّله مشدوها في ذلك المنبسط الرّيفي الكبير و بين التحام الرّمشين و انبعاث الأصفر الذّهبي من تحت سواد طرف الرّمش.
  رغم أنّه تفهّم رغبتها في النّعاس فهدوء المكان و هذا الضوء الخافت الذي ينبعث من الفانوس الحائطي و أصابع يده التي تداعب شعرها بين الحين و الآخر و الوشوشة التي تدغدغ أذنيها كلّ عَنَّ له أن يغازلها كذلك تعب السّفر و إرهاق العمل و انتظارٌ قد يكون أنهكها كما أنهكه كما أنّ لذّة الغفوة العابرة التي قد تحملها كملاك إلى الفضاء الشّاسع و جنّة الأحلام و إلى ما لا يمكن أن تراه وهي يقظة، كلّ هذا يدعوها للنّعاس و لو لحين. رغم أنّه تفهّم رغبتها في النّعاس إلاّ أنّه رجّها بلطف مّرة أولى و ثانية حتّى انتبهت ففتحت عينيها و قد ذهبت الحُمْرَة التي اعترتهما عندما دمعتا منذ حين فلا اثر للخطّ الحزين عليهما إلاّ بعض أثر خفيف للذبول في الحدقتين يدلّ غلى تعب و إرهاق. اعتذر لها عندما حرمها غفوتها وبرّر هذا بأنّه يكره النّوم فالنّوم رديف الموت بل هو موت مؤقّت رغم لذيذ أحلامه.نظرت إليه بابتسامتها العريضة السّالبة و لم تطاوعه في رغبته لإيقاظها وعاودت انغماسها في النّعاس فأغمضت ثانية.    
   ما تيسّر من الدفء سيّدتي أشعر بالبرد يغزو جسدي، هكذا همس في أذنها بعد أن رفع خصلة الشّعر التي كانت توسّط كتفيهما. هذه الوشوشة التي مزجها بنَفَسٍ دافئ داعب أذنها و دغدغها و جعلها تصرّ على أن تبقى مغمضة العينين كالنّائمة لكنّ ابتسامتها الخفيفة فضحتها فهي لم تكن ناعسة بل تتظاهر بذلك. لمّا شعر بهذا التظاهر، فتح جسرا من الكلمات اللّطيفة و المغازلة الخفيفة امتد هذا الجسر من الغزل بين شفتيه و أذنها و تحت غطاء خصلة الشّعر لمدّة دقائق، في لحظة مّا لمّا انقطع عن الغزل وابتعدت أنفاسه عن أذنها، شعرت و كأنهّ ابتعد عنها لسبب مّا، بل خافت أن يكون غاضبا من تجاهلها له رغم إلحاحه عليها ففتحت عينيها وانبلج صبح من رحم ليل، رآها كمن تبحث عن ضوء لتتبيّن الجسر حتّى تعبر نهر الغزل الشّتوي بسلام ، رآها كمن تبحث زورق لتجذف للعبور إلى الضفّة الأخرى، شغله نور عينيها، لم يدر أيطلب منها أن تبقى مفتّحة العينين أم تعود إلى النّعاس، يغريه مشهد النّعاس و مشهد اليقظة، تمتم ثمّ قال في داخله: " لها ما تريد من المشهدين ما دام كلاهما يدعوني لغزوة غزل ثانية و لهمس يبعث الدّفء من جديد".
  هل تراني مغرورة ؟... أفهم هذا من نظرات الآخرين التي توحي بذلك إنّني أخاف أن أكون كذلك، هكذا تساءلت وهي تدير وجهها و تنظر باتّجاه الفانوس الحائطي ذو النور الخافت كأنّها تريد إجابة دون أن تخضعه لنظرات عينيها أو لأيّ تأثير معنوي قد تسلّطه عليه. لم يزعجه هذا السؤال عكس ما كانت تعتقد بل ابتسم ثم وضع كفّه برفق على خدّها و أدار بيده وجهها ليصبحا وجها لوجه، تورّدت سحنتها ورمّشت رمشا متتالي كأنّها تدعوه لإجابة فوريّة مهما كانت قاسية بصدقها و عدم مجاملتها. أخذ نفسا طويلا ثمّ حدّق في عينيها حتى يثبت لها أنّه جادّ فيما يقول و أنّه في كامل اتّزانه و أن لا شيء يربكه لمّا يقتضي الأمر بحكم أو وجهة نظر شخصيّة ثم قال: أنا لا أعتقد أنّ حبيبتي مغرورة على الأقلّ إلى حدّ الآن، أعتقد فقط أنّك انزوائية و محترزة نوعا مّا أكثر من اللاّزم في بعض الأحيان و هذا مشروع لك و لأمثالك من النّساء فطبيعة هذا المجتمع تتطلّب هذا الاحتراز، لذلك يظنّ البعض أنّك مغرورة ثمّ أنّ هناك من لا يفرّق بين عزّة النّفس و الغرور و أنا شخصيّا مع عزّة النّفس مهما سبّبت من آلام داخليّة، قال هذا ثمّ تلاعب قليلا بأصابعه على خصلة شعرها و شحمة أذنها و أعلى رقبتها ثم أسرّ في أذنها:  يقال أنّ عزّة النّفس لا تصمد و تنهار فقط إلاّ في حالات العشق المذيب الجارف، أتمنّى أن لا نقع يوما في صراع مع عزّة النّفس فإن حدث هذا فقد يعني أن سحبا داكنة غطّت سماءنا، أنا لا أتمنى هذا إطلاقا فالجرح لا يخلّف إلاّ الألم. ابتسمت تمّ نقرت بإصبعها على أسفل ذقته وقالت: لا تخفْ أيّها الصّبيّ الخجول، كأنّك تكلّمني بلسان مجرّب أفناه صراعه مع عزّة نفسه، سأتنازلُ أو تتنازلَ أنت حتى لا نصل لهذا الذي وصفْتَ. نظر أليها مُطمْئِنا ثمّ قال: نعم، هو كلام لسان المجرّب الذي أغلق كلّ الملفّات القديمة و أحْرق كلّ السّير والدفاتر وركب زورقا جديدا في اتّجاه مدينة السّاحل الشّرقي قِِبْلتٌه عيناك و مجدافه خصلة شعرك و مَرْساهُ قلبُكِ يصارع عُباب البحر و لا يدري هل مازال المرسى بعيدا أم أنّه على العتبات؟ نظرت إليه وشدّت أصابعه بالقوّة التي تستطيع ثمّ قالت: ليطمئنّ هذا البحّار المغامر المجنون لقد أرسى منذ مدّة وهو لا يدري...
  في لحظة عشق قاتل أطفأت سيجارتها التي لم تنتصف نارا، انتقلت النّار من السيجارة إلى شفتيها ثم إلى كامل جسدها بعدها غمر عطرها المكان، ذابت كالشّمعة بين أصابعه سالت كماء الزّهر فوق ذراعه، تصبّبت عرقا أو ما يشبه رحيق النّسْرين، تضوّعت عشقا و تماوج المحيط وأصبح العالم بلا عنوان و لا معنى، في تلك اللّحظات الصّافية  غاب الكلام و الهمس و دخلا عالم الخلود و طارا إلى أعالي الأبراج . لم يسْتفقْ إلاّ بعد أن شعر أن الأرض ضاقت و أنّ عليه أن يجد مكانا أرْحب ونخلا أعلى من هذا النّخل و وردا لا يشبه هذا الورْد حتّى يرضيها و يخرجها من صخب هذه المدينة الغير فاضلة، لفّها من خصرها بكل قوّة استعدادا لطيران جديد، كانت هذه الحركة كافية لتستيقظ بدورها من هذا الحلم العميق، وجدته يتصبّب عرقا و يبحث عن المكان الذي يريد خارج هذه الأرض، فتحت حقيبة يدها و أخذت منديلا ورقيا و مسحت به على جبينه ثمّ عدّلت مِشْبك شَعرها بطريقة جمعت كلّ خصلات شعرها إلى الوراء أو ما يشبه ذيل الفرس بعدها أشبكت أصابعها على رقبته برفق وقالت: كدنا ننسى أنّنا قد نكون لسنا وحدنا في هذا المكان، بل أرانا وحدنا منذ جلسنا... ما بك أيّها المجنون؟ قال: أبحثُ عن مكان أرْحبَ من هذا المكان لنترك هذه المدينة الموبوءة لأهلها، ألا ترين أنّنا غرباء و ليست لنا أخلاقها ؟ قالت: لا داعي لمثل هذا التفكير، لن نخرج من هذه المدينة نحن جزء منها و نحمل بعض أخلاقها ثمّ لا يجب أن نغادرها بعد الذي حدث و الذي انتظرناه منذ سنين يجب أن نرى نهاية الحلم، بعد هذه الثورة أظنّ أن شكل المدينة و أخلاقها سيتبدّلان، سيتبدّل الرّتيب الجامد إلى المتحرّك الخلاّق، حتّى أنت ستتبذّل، قال: كيف ، لا يمكن هذا ؟ قالت: لا ... لا أقصد ما عنيتَ، ستبقى حبيبي بل قلْ ستبقى العاشق و سأبقى العاشقة ، نحن العاشقان اللذان وجدا بوصلتهما بعد الثورة ، هل كنّا سنلتقي لولا نشوة الثورة و انتصار هذا الشعب على جلاّديه ؟ مسكها من يدها ثم قام من مكانه و قبّلها من جبينها، لم تكن هذه القبلة قبلة عاشق بل هي قبلة لها طعم آخر قد تكون قبلة تقدير أو احترام و إجلال قد يكون شيئا آخر لا تفسير له ثمّ قال: يعجبني تفاؤلك و إصرارك على الحياة و حدسك الجميل، أنت تعتقدين أن الثورة ستكمل البناء و تؤسّس لحلم جديد يرضينا جميعا و أنّنا سنعيد بناء أخلاق المدينة يما ينفع الإنسان...هذا رائع لو يحدث بل هو المبتغى، لكنّني لا أفهم لماذا لـست متفائلا لهذا الحدّ ؟ قالت: طيّب، سنترك هذا لحكْم الأيّام فليكنْ ما يكون فلن يحدث ما هو أسْوء ممّا كنّا نعيش قبل الثّورة و لسنا وحدنا من سيُحَاسَبُ عمّا سيحدث ثمّ هل تعلم أنّني لم آت إلى هنا و أقطع كلّ هذه المسافات لنفتح منبرا سياسيا ؟ دعك من هذا الآن و انتبه للقريب العاجل.
  استفاق من تهويماته السّياسية بعد احتجاجها عليه لذلك اعتذر لها، كان لها من خفّة الظّل ما جعلها تتجاوز بسرعة تأنيبها له لذلك شعر أنّه تجاوز حرجه بالسّرعة المماثلة، فتحت حقيبتها اليدوية و أخرجت علبة و فتحتها بعناية، كان بداخلها قطعة كبيرة من مرطّب" الكايك"  قسّمتها إلى قطعتين واحدة كبيرة و الأخرى صغيرة ناولته القطعة الكبيرة قائلة: خذْ، هذا لك، لقد أعددته البارحة بيدي و قرّرت أن أناولك نصيبا منه، كم أتمنى أن يعجبك مذاقه ؟ تفضلْ... أخذ قطعة "الكايك" من يدها و اقتطع منها قطعة ثم تناولها، ظلت تنظر إليه و تنتظر حكمه دون أن تتناول قطعتها كمن ينتظر حكما بالسّجن أو البراءة، بعد برهة من الزّمن لم يسعفها الصّبر فقالت: إمْ...ما رأيك ؟  فردّ وهو يومئ برأسه من الأسفل إلى الأعلى:إيهْ... هي لذيذة ...نعم... و لذيذة جدّا، فقالت: أنت تجاملني؟ قال: أقسم أنّها لذيذة ، أنا لا أجامل في مذاق الأطعمة و المرطّبات، أجزم أنّها لذيذة ثم هل يمكن لتلك الأصابع الجميلة النّاعمة و المغرية أن لا تطبخ إلاّ اللّذيذ ؟ قالت: يسرّني أنه أعجبك مذاقها لكن لا داعي للتغزّل، أعتقد أنّني في حاجة لبُدلة واقية من الرّصاص حتّى لا أكون صيدا سهلا لرماة الطلقات الغزليّة من أمثالك التي قد تؤذيني أو تصيبني في مقتل، ترفّق بي أيّها الرّجل فقد يغرّني هذا الثّناء كما قال الشّاعر. قال: طيّب، سأعرض هدنة ما دام الغزل تحوّل إلى طلْق ناري، أنت تبالغين حبيبتي في التواضع حتى أكاد أشكّ في قدرتي تذوّق الجمال، سأبدأ الهدنة من الآن. قالت: سأرى إن كنت صادقا أم لا.
  سيكون عليه أن يتصبّر قليلا حتّى يثبّت هُدْنَته التي أعلنها من طرف واحد و سيرى كم سيدوم هذا التصبّر، وكان عليها كذلك أن تتصبّر أكثر  لأنّها لا تراه إلاّ فتاها المتغزّل الوَلِهُ الذي لا يأْبَهُ باللّوم في وصف كلّ ما هو جميل، تظاهرت بأنّها لا تهتمّ بشيء ما عدى ما يؤرّقها من أنّه قد يكون صادقا في وعده و كان عليه الكثير من التحمّل حتّى و إن غمزه هذا الخال المنمّق المغري الذي توسّط أسفل وجنتها و قارب شفتها العليا ببعض مساحة قبْلة أو يزيد وتَموْقَع في المكان كالحارس الأمين، استرق النّظر ولم يُطلْه حتى لا تتفطّن إليه واسترقت بدورها النّظر فرأته يتأمل خدّها الأيمن و بحركة لا إرادّيّة مسحت خدّها بطرف أناملها بما ترك أثرا لأصابعها على مساحة الخدّ بين أصْفر و أحْمر ورْديّ و بما أخفى أسفل وجْنتها و منع عليه مزيد التأمّل في نقطة الخال التي مالت إلى الأسمر البنّي و الذي تصادم لونها بالأحمر الورديّ المشرق على أعلى خدّها و الأحمر القاني في الأسفل و الذي حاز  مساحة الشّفتين. كان ينتظر أن تبعد أصابعها التي أصبحت ساترا يمنعه متعة النّظر لكنّها أمعنت في تجاهله و أبطأت حتى كاد يصيح و ينادي بإزالة المانع ثمّ مدّ يده وأزاح يدها من على خدّها قائلا: لا فائدة الآن في وضع يدك على خدّك قد يكون هذا مدعاة للتفكير والشّرود. أطاعته في حركة إبعاد يدها ثمّ ضغطت على أصابعه قائلة: بدأت تنقض عهودا قطعتها على نفسك دون داعي، أتظنّ أنّ الغزل يتمّ بالكلام فقط ؟ إنّ غزل العيون أشدّ وقعا من غزل الّلسان، بدأت تخسر الهدنة منذ الآن و لا أدري ماذا سيحدث بعد؟..  
     آه... لو لمْ اقطع عهدا على نفسي لقبّلتها حتّى يستوي الأحمر الورديّ بالأسمر البنّيّ و الأحمر القاني لتتشكّل لوحة الألوان من جديد و يصبح المشهد مغايرا لما قبل القبلة هكذا قال في تمتمة دون أن يعير اهتماما لتعهّداتها السّابقة ثمّ تذكّر في لحظة فارقة بأنّه وعدها بعدم التغزّل فقط و ليس بغير هذا،عندها همّ بها ليقبّلها دون سابق إنذار و لا دعوة، لمّا قارب وجنتها و أعلى شفتها أوقفت اقتراب شفتيه منها بكفّ يدها اليسرى بلطف لتضع حاجزا بين نقطة الخال و شفتيه فلم يجدْ بُدّا من أن يقبّل كفّ يدها علّها تتراجع تحت هول القبلة فينزاح  هذا الحاجز البلّوريّ الشفّاف من أمامه ليمرّ إلى موضع الرّماية تماما و ينهل من عين لا تجفّ. قالت بعد أن أوقفت زحفه نحو نقطة الخال: دعك من هذا الآن قد تركت لك مفاتيح مداخل المدينة أمّا مفاتيح مخارجها فهي لي...سيكون هذا لاحقا عندما تختبر المدينة و تكشف أبوابها و أنهجها و سرّها عندها فقط سيكون هذا ممكنا بل حقّ الغازي المجنون العاشق الذي ليس إلاّك... ستكون سلطان المدينة عندما يحين الموعد و أكون أميرتها بما يطفئ اللّهيب و يخمد الحريق يا "نيرون" روما و "طارق" الأندلس.                     
  تأمّلتْ شاشة الهاتف  ثم رفعت حاجبيها و بعدها أومأت برأسها و نظرت إلى النّافذة  كأنها تستطلع شيئا مّا، ثم قالت و علامات الأسف بادية عليها: لم يبقى من الوقت إلاّ بعضه بل و قليله، كم كان الوقت خفيفا و سريعا؟ كنت أعتقد أنّنا في بداية الظّهيرة لكنّ ساعة  الهاتف أيقظتني من هذا الحلم الجميل، أتدري ؟.. في بعض الأحيان أكره استطلاع السّاعة بل أشعر أنها عدوّ يسرق منّي ما هو عزيز عليّ، السّاعة الآن تسرقني منك و تسرقك منّي فكلانا مطمح لصّ اسمه الوقت لو كان بإمكاني لأعدت عقارب السّاعة إلى الوراء... لو كان بإمكاني...آه، لو كان بإمكاني. طأطأ برأسه قليلا لمدة لحظات كمن يعيد البناء من جديد  و يرتّب اللحظة حتى تستوي و ترتقي لمستوى صفاء اللّقاء و بعدها رفع رأسه ونظر في عمق عينيها وبقي شاخصا و قد عجز لسانه عن الكلام، ذبل وجهه و ظهرت تعابير لا حصر لها تدلّ على العجزين، العجز عن الكلام و العجز عن إيقاف السّاعة حتّى لا يرى للّقاء نهاية، رغم هذا ابتسم ابتسامة خفيفة كرفض للعجز و حتّى يظهر لها أنّه أقوى على التحمّل بل  و السّخرية والرّفض، سوف يخفي هذه المرارة بشجاعته المعهودة و يجعل من هذا اللّقاء الحفل الذي انتظره بكلّ هذا الوله لذلك أخفى كل ما يلقي كدرا على المكان و امسك بطرف أصابعها و وجّهها إلى الأعلى في دعوة للوقوف، تثاقلت عند قيامها كأنّ قوّة تمسكها و تمنعها من الوقوف  بعدها وقفا وجها لوجه فتورّدت مساحة خدّيها كحقل من شقائق النّعمان، لم تكن لتقوى على الكلام و انعقد لسانها و لم يبقى إلا حديث مكتوم تقوله العين و يسمعه القلب. قبّلها قبلة طويلة كالسكّر كان طعم شفتيها أو أحلى،تراجع قليلا إلى الوراء و مسك بيدها و ضمّهما لبعض ثمّ رفعهما إلى مستوى صدره و قبّلهما قائلا: أعتقد أنّني أسعد رجل في هذا اليوم بل إنّني أجزم بهذا فشكرا لك على ما وهبتني من متعة اللّحظة و طيب اللّقاء... قالت: إذا لتكن هذه قُبْلتك الأخيرة. قال: نعم سيكون لك ذلك لكن بالنّسبة لهذا اليوم فقط حتّى لا أُتّهم بخرق مواثيقي عهودي. ضحكت ثمّ قالت: هذا إذا كان للمحبّين مواثيقا و عهودا؟ سأرى...سأرى...  
   نظرت مليّا في وجهه كمن يأخذ جرعة ماء بارد في حالة عطش كافر ثمّ سحبت يدها من يده وضعتها على كتفه وداعبت بطرف أناملها أسفل ذقنه و قالت: أرجوك لا تأسف، أريد أن أتركك سعيدا، تماما كما وجدتك هذا الصّباح، سيؤلمني لو تركتك حزينا بعد كل هذه الفترة السّعيدة التي قضيناها معا، أعدك أنّني سأعود في أوّل فرصة سانحة، أقسم أنّني سأعود و سنقتسم مفاتيح المدينة مداخلها و مخارجها و سنكون أسعد ضيوفها، فقط جرعة صغيرة من الصّبر و نعيد تعهّد الحديقة بالورد الذي يكفي ليجعلنا أسعد العشّاق...


الحلاّج ...

(نصّ من سلسلة زرقة البحر ... و موعد، 2012 ربيعا  )

الأحد، 4 مايو 2014

ثلج الكاف الدافئ 

 ، بماذا يفيد هذا النّدم ؟ أو قل ماذا سيعوّض لي فقد كنت وحدك يومها  في مكتبك و كنت أتيت وحيدة، تعلّلت كذبا أنّ  شيئا مّا بيننا، كنت تمسك مسطرة معدنيّة فضّية اللون أظنها من الأليمينيوم، تزيد عن المتر ، لا زلت أتذكّر هذا جيدا ، كنت تضعها تارة على طاولة الرّسم و تارة أخرى على طاولة أخرى صغيرة بجانبك ، جلست أمامك و نظرت في وجهك ، تعمّدت هذا مرارا و تكرار ، تجاهلتني، أحسست أنّك رجل لا يفهم لغة النّساء، لو كان الأمر بيدي لضربتك بالمسطرة المعدنيّة ـ أحسست أنّها تصلح للّضرب فقط  كنت أودّ لو أضربك على رأسك فأشجّه و أرى دمك يسيل على جبينك ، نعم أضربك على هذا الرّأس العنيد ... لكنّني فضلت مواصلة مشواري فأنا في نهاية الأمر ضيفتك و يمكنك أن تكون وقحا و تطردني من مكتبك ، هل كنت ستطردني لو فعلتها ؟ لا أظنّ ، أردت أن أجرحك كما جرحتني ، هل امرأة يتجاهلها رجل  يمكن أن تكون ودودة و طيّبة ؟ لا أعتقد هذا إطلاقا. 
يومها كان الطّقس حارّا و الشّمس ساطعة، أكلت أشعّتها جسدي ، و مال لوني الى سمرة قمحيّة ،، انتبهت الى هذا عندما وقفت أمام المرآة في أقصى الرّواق الذي يقع فيه مكتبك . شككت في قدرتي على لفت نظرك و دفعك الى أن تحسّ أن هناك امرأة تحوم حولك لم يخنها جمالها رغم أن القدر و الزّمن خاناها، لذلك، لمّا جلست قبالتك تعمّدت تعرية كتفي لأحكّه، كتفي لم تلسعه أشعّة الشّمس ، أردت أن أقتحمك و أفتح أسوارك ببياض جسدي و صفاء بشرتي ، آآآآه .. أيّها النّاكر لن يفيدك النّدم هذه الليلة ، سأعتقلك للّيلة الثالثة و سأتركك يتيما في الفراش، لا تقل أن برد الثلج و سكرك دفعاك للقدوم اليّ رغم أنفك ، أنت جئت تطلبني خليلة ، لن يحدث هذا أبدا. سأشفي غليلي أوّلا ، غليل امرأة عاقر ، أنت لا تعرف غليل امرأة عاقر... نسيت؟ لم تنظر في وجهب إطلاقا و تحاشيتني، كنت جبانا و خفْتَ ، أنا أعرف هذا ، نظرة واحدة من عينيّ كانت ستكفي لانهاء عنادك لذلك جبنتَ، هههه .. عجبي من رجل لا يجد شجاعته و لسانه إلاّ عندما يكون مخمورا، هذا الرجل ذاته يقول أنه يعارض نظام الدّولة أو بورقيبة أو لا أدري ماذا؟ الذين يخافون عيون النّساء و جمالهنّ لا يقدرون على اسقاط ذبابة فما بالك بنظام كامل ؟ أقسم أنهم غير قادرين على شيئ ممّا تعتزمون عليه. لا تسخر منّي ، صحيح أنا لست متعلمة و لا بنت مدارس و لم أتعلّم في الدنيا إلاّ شؤون المنزل و كيفية ارضاء رجل مغرور مثلك ، هذا ما علمتني أمّي ، و تعلّمت أيضا أشياء لا تجيدها أنت و أمثالك و حتى صديقاتك و رفيقاتك في هذا الحزب الملعون، لقد تعلّمت كيف أربّي طفلا ، للأسف لم يصلح هذا التعليم لأنّني عاقر ، 
ماذا يفيد النّدم ؟ ...
أنا امرأة عاقر تجيد تربية الأطفال و شبيهة بياض الثّلج الكافي بل أنا أحسن منه ، أنا بي بياض دافئ و هو به بياض بارد ، نعم وددت لو ضربتك بالمسطرة المعدنية بعد أن عريّت كتفي الأبيض الناصع و تعمّدت أيضا نزع حذائي الصيفي لأتحسّس خدشا أحدثه بكعبي ، رفعت قدمي كي أتفقدها و أرى عمق الخدش، بانت قدمي كقطعة جبن و ظهرت أصابع رجلي و لون أظافري الملمّعة بملوّن أسود كغلال البحر أو كبرغوث البحر ، قلت لك : الحذاء خدش كعبي و أحدث ألما لا يحتمل فتجاهلتني انشغلت بمكالمة هاتفيّة و حديث تافه لا يستحقّ هذا الاهتمام ، لملمت بقيّة كبريائي و لعنت اليوم الذي رأبتك فيه و لعنت حتى نفسي ، لماذا أتيت إليك و كيف ساقتني قدماي و رضيت لنفسي هذا ؟ أخذت حقيبتي اليدويّة لأرى الوقت بحثت عن ساعتي التي وضعتها قبل خروجي في الحقيقبة قصد حملها للسّاعاتي ليصلح حزامها الجلدي كي أعيدها لمعصمي ، أكره أن لا يحمل معصمي ساعة يدوية و أخيّر في عادتي السّاعة على السّوار .. يهمّني أن أتحسّس الوقت الذي الذي يفرّ منّي و يسيل بين أصابعي ليضيف عمرا على عمري. كنت لجوجة و لم أرتدع من يوم أن رأيتك في حفل ختان الطّفل هيثم بن عليّ زميلك في الشغل ، لعنت تلك اللّيلة التي رأيتك فيها، كنتَ ثملا و في حالة سكرا مطبق، أخذك صديقك و نديمك من يدك و دعاك للرّقص على أنغام أغنية كافيّة " دَلْوِحْ يا الغرام " رأيت ؟ لم انس أيّ شئ ، كنت أظنّ أنك سترقص و ستستجيب للدّعوة فرفضت رغم أنّك على تلك الحالة من السّكر.  لماذا رفضت أن ترقص ليلتها ، أكنت حقّا لا تجيد الرّقص؟ توسّل اليك صديقك كي تشاركه رقصته و زغردت "أم الزّين" لتحرجك و تدفعك للرقص فرفضت ، قلت أنّ لا تجيد الرقص و لا يحسن برجل لا يجيد الرّقص أن يرقص في حفل جلّ حضوره نساء. ظللت أراقبك لعلّك تلين و تفعلها حتّى مجاملة لأهل المختون لكنّك رفضت ، كان عليّ أن أفهم منذ تلك اللّيلة أنّك عنيد حتّى و أنت سكران. كنت أطلّ من النافذة ، هل نسيت ؟ كنت أطل خفية حتى لا يلاحذ الحضور اهتمامي بك رغم أنّك لم تكن أنيقا ليلتها . كنت جريئة و مددت يدي، يدي هذه اليمنى و همزتك برفق على جانبك الأيسر الأقرب منّي، التفتّ اليّ ، كانت عيناك محمرّة من وقع السّكْر، حملقت طويلا فيك ، أول مرّة اراك فيها على هذا القرب و هذه المسافة ، فرحت كثيرا و نسيت عيون النساء التي تتعقبني ، أوّل مرة أحسّ أنّني امرأة جريئة حدّ الوقاحة ، ابتسمتَ في وجهي و غمزتني بعين متعبة حمراء ، فهمت أنك انتبهت اليّ و قبلت اشارتي اليك ...



الحلاّج ...
فقرة من سلسلة " ثلج الكاف الدّافئ "