وحده الاصرار جعلني أتمسّك بالتعليم في ريف السّرس البارد شتاءً و صباحات الجليد التي لا تطاقُ وفي مسلك طيني بلا معبّد و لا قنطرة ، لم تكن الحكومة معي و لا حتّى اللّه، فقط أمّي كانت تسندني برغيفها و قطعة من الزّبدة و السكّر وترغيبها و دعواتها و حزمة التبن التي اشعلها في الطريق عندما تتجمّد أصابعي و تتقرّح أطرافي عندما ينهكني برد الشّتاء ..
كنت أرتاد مدرسة من العهد الفرنسي بتجهيزاتها القديمة جدّا باسقف أقسامها العالية و شبابيكها المستطيلة حدّ الشقف والمشبّكة بالحديد الواقي من تسرّب الغرباء ..كنت كل يوم ابحث عن تبرير جديد لتأخري في الوصول على الساعة الثامنة و كانت كلّ تبريراتي تذهب سدى مع معلم رعديد وقاس لا يفهم الّا في التنكيل بالتلاميذ و طرق الضرب والايلام في أصابعنا المتقرّحة من الصقيع ..
لم تكن الحكومة معنا و لا حتّى اللّه، انتظرت تعبيد الطريق وبناء قنطرة على النّهر الممتدّ كل صباح أمامنا كالثعبان ، كنّت مرغما علىّ نزع حـذائي لشقّ ماءّ الوادي فيأخذ الماء البارد من مفاصل أقدامي ما يشاء ، بعدها أنتعل من جديد وأواصل الطريق الطويل.
أنهض صباحا على برنامج إذاعي ، أذكر أن اسمه "مدائح وأذكار" و صوت منشد كالح ردئ يخلف بين المدح الديني والحكومي ويراوح بين ضرب الدفّ او ضرب الاكفّ والتصفيق ..و كان هذا المديح و الذّكر يشبه قرعا شديدا على الرأس و تختم بين الحين و الآخر هذه الصّولة المدحيّة ب"ياحبيبي بورقيبة الغالي" وهذا الطريق يأكل اطراف أصابعي برضاء ودعم من سلط الدولة.. عندها أسبّ القـــوّادين و'' بورقيبة'' والحكومة العاجزة عن تشييد جسر صغير و تعبيد مسلك طيني .
………………………………
الحلّاج الكافي/المهدي
من "ثلج الكاف الدّافئ"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق