الأحد، 22 يونيو 2014

ورم الطبّال القديم ..

                    

سأذبحك من الوريد الى الوريد ...
و الله لن تأخذني  بك رأفة ، ماذا سيقول عنّي الناس ؟ أنا أحمد الأسد الأصفر ازوّج ابنتي الوحيدة من رجل يقتات من ضرب الطّبل في الأعراس ... له الحقّ ان يضرب الطّبل  و أن يغنّي في أعراسنا لا أن يتزوّج بناتنا، أنا لا ازوّج ابنتي من طبّال، انبّهك مرة أخيرة و الله لو سمعتك تزغردين و هو يغني في أيّ عرس تحضرينه لأقطعنّ لسانك و بلا شفقة ، أنا لا أعيد تهديدي ، أنا انفّذ مباشرة بعد التنبيه الأول، أمك تعرف هذا جيّدا و فهمت درسها من منذ اليوم الاول لزفافي.
هكذا قال لها ابوها منذ ما يزيد عن ستّين سنة ...
بكت و لطمت وجهها ، كانت تحبّه و كان يحبّها، لم يشفع لها بكاؤها، رفضت الزواج الاول و الثاني، في يوم قائض اتاها ابوها على غير عادته مزمجرا و متوعّدا و قال لها في لهجة صارمة: غدا سيأتي صديقي من جهة "اللّاس" و سيخطبك لابنه ، هو صديق العمر و من عائلة شريفة و غنيّة ، فلاّح معروف و صاحب رجولة و شهامة و جاه، و الله لو رفضت هذا الزواج لأفرغنّ رصاص البندقيّة في صدرك ...فترتاحين و ارتاح ، سمعت ما قلته جيّدا ؟ غدا ستقبلين بابنه زوجا كريما. صمتت و اصفرّ وجهها  و فكّرت طويلا في الامر،
و خامرتها فكرة الهروب من منزل والدها ... لكن الى اين ؟ هي لم تغادر في حياتها قط بيت ابويها و لا تعرف الاّ بيت خالها ، لو ذهب البه هربا من ابيها سيقتلها بدوره، بنت الاخت هي الاخت و لا يمكن ان تكون مجلبة للعار لقبيلتها.. طردت الفكرة من رأسها، و عاودها تخمين جديد ، ماذا لو أفرغت رصاص البندقيّة في صدرها و هكذا تنهي المعضلة برمّتها ، لكنها لم تطلق النار يوما، و ستموت أمّها كمدا لو حصل هذا...
عانقتها امها لمّا فهمت ان شرّا يدور في رأسها ، هي ابتها الوحيدة ، ابنتها المحبّة العنيدة الجامحة ، قبّلتها من قدمها ، و بكت بحرارة الأم العارفة لمدى عشق ابنتها العاشقة للطبّال صاحب الصوت الشجيّ الذي يبكي النساء تارة و يضحكهن تارة اخرى و يعدّل مزاج الحاضرات في الاعراس كما يشاء ، و له قدرة على بسط نفوذه الغنائي على جميع الحاضرين.
عانقتها عناقا حارّا و قبلتها من قدميها و طلبت منها ان لا تعصي أمرا لأبيها لأنها لو فعلت قد  يقتلها ، و عدّدت محاسن أهل زوج المستقبل و وعدتها انها لن تتركها حتى يفرّق الموت بينهما ..
نظرت في وجه أمّها و قالت: أتعلمين أمّاه ماذا غنّى آخر مرّة حفل ختان " عمّي العروسي" قالت امها و الله يا بنيّتي نسيت و لم يعد يستهويني الغناء اصلا منذ علمت انك تحبّينه، كرهت الاعراس و العناء و الضرب على الطبل. سال الدّمع من عينيها ثم قالت سأغـنيك آخر ما عنّى انصتي جيّدا:
 العيُونْ عيُوني ..
يا للَّا..
كي نبكي
 آشْ يسالوني ..
°°°
العُيون سَحَابا
يا للَّا..
العيونْ سَحابا
انا نبكي
عذّبني بَابَا
°°°°°
العيون ذبيلةْ
يا للَّا..
العيون ذبيلةْ
كي نبْكي
ما عندي حيلةْ
أتعلمين أماه ؟ لقد كان يغنّي لي وحدي ، لم يلتفت لجمع النساء، لم يفعلها قطّ من قبل ، أتعلمين أمّاه لماذا؟ لأنّه كان يغنّي و يبكي ، نعم، أحسست بشهقة في صدره و غصّة في حلقه... فقد الكثير من صوته و كان ضربه على الطبل عنيفا ليخفي غصّته و يتسر على دموعه... لقد غاروا منّي ، اكلتهم الغيرة و لم يزغردوا كعادتهنّ ، خفت أن أزغرد لوحدي فيعلم أبي و يقطع لساني.. لقد أقسم على هذا مرة و اكتفى بقسمه .
حدث هذا لمّا كانت في ريعان شبابها منذ ستين سنة خلت، غضّة طريّة و جريحة القلب،  لم تفسخ السنون كلها سطرا واحدا من قصّتهما.. بل مازادت هذه السنوات الا شوقا على الشوق.. تحبّه كما حدث منذ ستة عقود كما كان يغني أغـنية لها في كل عرس يحضره و يبكي كما كان يبكي منذ سنّ الشباب.
كنت صغيرا لم اتجاوز العشر سنوات لما سمعتها تحكي قصتها للنساء و قد تجاوزت الثمانين حولا... و كان النساء يتهامسن خلسة و يظهرن اهتماما مفتعلا لما تروي لهم قصّة الحبّ التي صاحبتها لأنهنذ سبق لهنّ سماعها في عرس تقريبا حتى حفظن القصة عن زهر قلب....
كنت اتابع حركاتها و سكناتها و كنت الوحيد الذي يسمعها و لا يقلقه ان تعيد الحكاية من اولها لأنه و في كل مرّة تحذف و تزيد تفاصيل جديدة مشوّقة ...
++++++++  يتْبَعُ ...
الحلاّج.

أحداث القصّة و ابطالها حقيقيون لكنّني سوف اعيّر الاسماء لأتجنّب  احراج البعض من عائلتيهما. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق