الخميس، 8 مايو 2014

زرقة بحر .. و موعد .. التصّ المنسي






عندما أغمضت عينيها التحم الرّمش الأسفل بالرّمش الأعلى ليرسم خطّا مستقيما أفقيا يمتدّ من حدود التقاء حاجبها و أعلى أنفها إلى مستوى الصدغ، كان طرف رمشها يميل الى الأسود الكحيل بينما يميل جذع الرّمش إلى الأصفر الذّهبي، ربّما يكون هذا اللّون هو اللّون الأصلي للرّمش لكن تمازج اللّونين الأسود الحالك ومن تحته الأصفر الذهبيّ ولّد مشهدا يشبه شعاع الشّمس الذّهبي من تحت سحب داكنة إبّان غروب شتوي، نعم كان يشبه هذا الغروب تماما، كان يريد أن يمتدّ المشهد إلى ما أبعد، إلى ما وراء الشّمس، إلى الذي يدور في مخيّلتها إلى ما لا يجعل الشّمس تغيب تماما، كم كان يكره الظّلام بعد الغروب الشّتوي و كم كان يشعر بالعجز؟ العجز على أن يمنع شّمس الشّتاء من المغيب، شعر ببرد يلفّه عندما تمازج المشهد الشّتوي لغروب الشّمس الذي سحره منذ صباه و الذي تأمّله مشدوها في ذلك المنبسط الرّيفي الكبير و بين التحام الرّمشين و انبعاث الأصفر الذّهبي من تحت سواد طرف الرّمش.
  رغم أنّه تفهّم رغبتها في النّعاس فهدوء المكان و هذا الضوء الخافت الذي ينبعث من الفانوس الحائطي و أصابع يده التي تداعب شعرها بين الحين و الآخر و الوشوشة التي تدغدغ أذنيها كلّ عَنَّ له أن يغازلها كذلك تعب السّفر و إرهاق العمل و انتظارٌ قد يكون أنهكها كما أنهكه كما أنّ لذّة الغفوة العابرة التي قد تحملها كملاك إلى الفضاء الشّاسع و جنّة الأحلام و إلى ما لا يمكن أن تراه وهي يقظة، كلّ هذا يدعوها للنّعاس و لو لحين. رغم أنّه تفهّم رغبتها في النّعاس إلاّ أنّه رجّها بلطف مّرة أولى و ثانية حتّى انتبهت ففتحت عينيها و قد ذهبت الحُمْرَة التي اعترتهما عندما دمعتا منذ حين فلا اثر للخطّ الحزين عليهما إلاّ بعض أثر خفيف للذبول في الحدقتين يدلّ غلى تعب و إرهاق. اعتذر لها عندما حرمها غفوتها وبرّر هذا بأنّه يكره النّوم فالنّوم رديف الموت بل هو موت مؤقّت رغم لذيذ أحلامه.نظرت إليه بابتسامتها العريضة السّالبة و لم تطاوعه في رغبته لإيقاظها وعاودت انغماسها في النّعاس فأغمضت ثانية.    
   ما تيسّر من الدفء سيّدتي أشعر بالبرد يغزو جسدي، هكذا همس في أذنها بعد أن رفع خصلة الشّعر التي كانت توسّط كتفيهما. هذه الوشوشة التي مزجها بنَفَسٍ دافئ داعب أذنها و دغدغها و جعلها تصرّ على أن تبقى مغمضة العينين كالنّائمة لكنّ ابتسامتها الخفيفة فضحتها فهي لم تكن ناعسة بل تتظاهر بذلك. لمّا شعر بهذا التظاهر، فتح جسرا من الكلمات اللّطيفة و المغازلة الخفيفة امتد هذا الجسر من الغزل بين شفتيه و أذنها و تحت غطاء خصلة الشّعر لمدّة دقائق، في لحظة مّا لمّا انقطع عن الغزل وابتعدت أنفاسه عن أذنها، شعرت و كأنهّ ابتعد عنها لسبب مّا، بل خافت أن يكون غاضبا من تجاهلها له رغم إلحاحه عليها ففتحت عينيها وانبلج صبح من رحم ليل، رآها كمن تبحث عن ضوء لتتبيّن الجسر حتّى تعبر نهر الغزل الشّتوي بسلام ، رآها كمن تبحث زورق لتجذف للعبور إلى الضفّة الأخرى، شغله نور عينيها، لم يدر أيطلب منها أن تبقى مفتّحة العينين أم تعود إلى النّعاس، يغريه مشهد النّعاس و مشهد اليقظة، تمتم ثمّ قال في داخله: " لها ما تريد من المشهدين ما دام كلاهما يدعوني لغزوة غزل ثانية و لهمس يبعث الدّفء من جديد".
  هل تراني مغرورة ؟... أفهم هذا من نظرات الآخرين التي توحي بذلك إنّني أخاف أن أكون كذلك، هكذا تساءلت وهي تدير وجهها و تنظر باتّجاه الفانوس الحائطي ذو النور الخافت كأنّها تريد إجابة دون أن تخضعه لنظرات عينيها أو لأيّ تأثير معنوي قد تسلّطه عليه. لم يزعجه هذا السؤال عكس ما كانت تعتقد بل ابتسم ثم وضع كفّه برفق على خدّها و أدار بيده وجهها ليصبحا وجها لوجه، تورّدت سحنتها ورمّشت رمشا متتالي كأنّها تدعوه لإجابة فوريّة مهما كانت قاسية بصدقها و عدم مجاملتها. أخذ نفسا طويلا ثمّ حدّق في عينيها حتى يثبت لها أنّه جادّ فيما يقول و أنّه في كامل اتّزانه و أن لا شيء يربكه لمّا يقتضي الأمر بحكم أو وجهة نظر شخصيّة ثم قال: أنا لا أعتقد أنّ حبيبتي مغرورة على الأقلّ إلى حدّ الآن، أعتقد فقط أنّك انزوائية و محترزة نوعا مّا أكثر من اللاّزم في بعض الأحيان و هذا مشروع لك و لأمثالك من النّساء فطبيعة هذا المجتمع تتطلّب هذا الاحتراز، لذلك يظنّ البعض أنّك مغرورة ثمّ أنّ هناك من لا يفرّق بين عزّة النّفس و الغرور و أنا شخصيّا مع عزّة النّفس مهما سبّبت من آلام داخليّة، قال هذا ثمّ تلاعب قليلا بأصابعه على خصلة شعرها و شحمة أذنها و أعلى رقبتها ثم أسرّ في أذنها:  يقال أنّ عزّة النّفس لا تصمد و تنهار فقط إلاّ في حالات العشق المذيب الجارف، أتمنّى أن لا نقع يوما في صراع مع عزّة النّفس فإن حدث هذا فقد يعني أن سحبا داكنة غطّت سماءنا، أنا لا أتمنى هذا إطلاقا فالجرح لا يخلّف إلاّ الألم. ابتسمت تمّ نقرت بإصبعها على أسفل ذقته وقالت: لا تخفْ أيّها الصّبيّ الخجول، كأنّك تكلّمني بلسان مجرّب أفناه صراعه مع عزّة نفسه، سأتنازلُ أو تتنازلَ أنت حتى لا نصل لهذا الذي وصفْتَ. نظر أليها مُطمْئِنا ثمّ قال: نعم، هو كلام لسان المجرّب الذي أغلق كلّ الملفّات القديمة و أحْرق كلّ السّير والدفاتر وركب زورقا جديدا في اتّجاه مدينة السّاحل الشّرقي قِِبْلتٌه عيناك و مجدافه خصلة شعرك و مَرْساهُ قلبُكِ يصارع عُباب البحر و لا يدري هل مازال المرسى بعيدا أم أنّه على العتبات؟ نظرت إليه وشدّت أصابعه بالقوّة التي تستطيع ثمّ قالت: ليطمئنّ هذا البحّار المغامر المجنون لقد أرسى منذ مدّة وهو لا يدري...
  في لحظة عشق قاتل أطفأت سيجارتها التي لم تنتصف نارا، انتقلت النّار من السيجارة إلى شفتيها ثم إلى كامل جسدها بعدها غمر عطرها المكان، ذابت كالشّمعة بين أصابعه سالت كماء الزّهر فوق ذراعه، تصبّبت عرقا أو ما يشبه رحيق النّسْرين، تضوّعت عشقا و تماوج المحيط وأصبح العالم بلا عنوان و لا معنى، في تلك اللّحظات الصّافية  غاب الكلام و الهمس و دخلا عالم الخلود و طارا إلى أعالي الأبراج . لم يسْتفقْ إلاّ بعد أن شعر أن الأرض ضاقت و أنّ عليه أن يجد مكانا أرْحب ونخلا أعلى من هذا النّخل و وردا لا يشبه هذا الورْد حتّى يرضيها و يخرجها من صخب هذه المدينة الغير فاضلة، لفّها من خصرها بكل قوّة استعدادا لطيران جديد، كانت هذه الحركة كافية لتستيقظ بدورها من هذا الحلم العميق، وجدته يتصبّب عرقا و يبحث عن المكان الذي يريد خارج هذه الأرض، فتحت حقيبة يدها و أخذت منديلا ورقيا و مسحت به على جبينه ثمّ عدّلت مِشْبك شَعرها بطريقة جمعت كلّ خصلات شعرها إلى الوراء أو ما يشبه ذيل الفرس بعدها أشبكت أصابعها على رقبته برفق وقالت: كدنا ننسى أنّنا قد نكون لسنا وحدنا في هذا المكان، بل أرانا وحدنا منذ جلسنا... ما بك أيّها المجنون؟ قال: أبحثُ عن مكان أرْحبَ من هذا المكان لنترك هذه المدينة الموبوءة لأهلها، ألا ترين أنّنا غرباء و ليست لنا أخلاقها ؟ قالت: لا داعي لمثل هذا التفكير، لن نخرج من هذه المدينة نحن جزء منها و نحمل بعض أخلاقها ثمّ لا يجب أن نغادرها بعد الذي حدث و الذي انتظرناه منذ سنين يجب أن نرى نهاية الحلم، بعد هذه الثورة أظنّ أن شكل المدينة و أخلاقها سيتبدّلان، سيتبدّل الرّتيب الجامد إلى المتحرّك الخلاّق، حتّى أنت ستتبذّل، قال: كيف ، لا يمكن هذا ؟ قالت: لا ... لا أقصد ما عنيتَ، ستبقى حبيبي بل قلْ ستبقى العاشق و سأبقى العاشقة ، نحن العاشقان اللذان وجدا بوصلتهما بعد الثورة ، هل كنّا سنلتقي لولا نشوة الثورة و انتصار هذا الشعب على جلاّديه ؟ مسكها من يدها ثم قام من مكانه و قبّلها من جبينها، لم تكن هذه القبلة قبلة عاشق بل هي قبلة لها طعم آخر قد تكون قبلة تقدير أو احترام و إجلال قد يكون شيئا آخر لا تفسير له ثمّ قال: يعجبني تفاؤلك و إصرارك على الحياة و حدسك الجميل، أنت تعتقدين أن الثورة ستكمل البناء و تؤسّس لحلم جديد يرضينا جميعا و أنّنا سنعيد بناء أخلاق المدينة يما ينفع الإنسان...هذا رائع لو يحدث بل هو المبتغى، لكنّني لا أفهم لماذا لـست متفائلا لهذا الحدّ ؟ قالت: طيّب، سنترك هذا لحكْم الأيّام فليكنْ ما يكون فلن يحدث ما هو أسْوء ممّا كنّا نعيش قبل الثّورة و لسنا وحدنا من سيُحَاسَبُ عمّا سيحدث ثمّ هل تعلم أنّني لم آت إلى هنا و أقطع كلّ هذه المسافات لنفتح منبرا سياسيا ؟ دعك من هذا الآن و انتبه للقريب العاجل.
  استفاق من تهويماته السّياسية بعد احتجاجها عليه لذلك اعتذر لها، كان لها من خفّة الظّل ما جعلها تتجاوز بسرعة تأنيبها له لذلك شعر أنّه تجاوز حرجه بالسّرعة المماثلة، فتحت حقيبتها اليدوية و أخرجت علبة و فتحتها بعناية، كان بداخلها قطعة كبيرة من مرطّب" الكايك"  قسّمتها إلى قطعتين واحدة كبيرة و الأخرى صغيرة ناولته القطعة الكبيرة قائلة: خذْ، هذا لك، لقد أعددته البارحة بيدي و قرّرت أن أناولك نصيبا منه، كم أتمنى أن يعجبك مذاقه ؟ تفضلْ... أخذ قطعة "الكايك" من يدها و اقتطع منها قطعة ثم تناولها، ظلت تنظر إليه و تنتظر حكمه دون أن تتناول قطعتها كمن ينتظر حكما بالسّجن أو البراءة، بعد برهة من الزّمن لم يسعفها الصّبر فقالت: إمْ...ما رأيك ؟  فردّ وهو يومئ برأسه من الأسفل إلى الأعلى:إيهْ... هي لذيذة ...نعم... و لذيذة جدّا، فقالت: أنت تجاملني؟ قال: أقسم أنّها لذيذة ، أنا لا أجامل في مذاق الأطعمة و المرطّبات، أجزم أنّها لذيذة ثم هل يمكن لتلك الأصابع الجميلة النّاعمة و المغرية أن لا تطبخ إلاّ اللّذيذ ؟ قالت: يسرّني أنه أعجبك مذاقها لكن لا داعي للتغزّل، أعتقد أنّني في حاجة لبُدلة واقية من الرّصاص حتّى لا أكون صيدا سهلا لرماة الطلقات الغزليّة من أمثالك التي قد تؤذيني أو تصيبني في مقتل، ترفّق بي أيّها الرّجل فقد يغرّني هذا الثّناء كما قال الشّاعر. قال: طيّب، سأعرض هدنة ما دام الغزل تحوّل إلى طلْق ناري، أنت تبالغين حبيبتي في التواضع حتى أكاد أشكّ في قدرتي تذوّق الجمال، سأبدأ الهدنة من الآن. قالت: سأرى إن كنت صادقا أم لا.
  سيكون عليه أن يتصبّر قليلا حتّى يثبّت هُدْنَته التي أعلنها من طرف واحد و سيرى كم سيدوم هذا التصبّر، وكان عليها كذلك أن تتصبّر أكثر  لأنّها لا تراه إلاّ فتاها المتغزّل الوَلِهُ الذي لا يأْبَهُ باللّوم في وصف كلّ ما هو جميل، تظاهرت بأنّها لا تهتمّ بشيء ما عدى ما يؤرّقها من أنّه قد يكون صادقا في وعده و كان عليه الكثير من التحمّل حتّى و إن غمزه هذا الخال المنمّق المغري الذي توسّط أسفل وجنتها و قارب شفتها العليا ببعض مساحة قبْلة أو يزيد وتَموْقَع في المكان كالحارس الأمين، استرق النّظر ولم يُطلْه حتى لا تتفطّن إليه واسترقت بدورها النّظر فرأته يتأمل خدّها الأيمن و بحركة لا إرادّيّة مسحت خدّها بطرف أناملها بما ترك أثرا لأصابعها على مساحة الخدّ بين أصْفر و أحْمر ورْديّ و بما أخفى أسفل وجْنتها و منع عليه مزيد التأمّل في نقطة الخال التي مالت إلى الأسمر البنّي و الذي تصادم لونها بالأحمر الورديّ المشرق على أعلى خدّها و الأحمر القاني في الأسفل و الذي حاز  مساحة الشّفتين. كان ينتظر أن تبعد أصابعها التي أصبحت ساترا يمنعه متعة النّظر لكنّها أمعنت في تجاهله و أبطأت حتى كاد يصيح و ينادي بإزالة المانع ثمّ مدّ يده وأزاح يدها من على خدّها قائلا: لا فائدة الآن في وضع يدك على خدّك قد يكون هذا مدعاة للتفكير والشّرود. أطاعته في حركة إبعاد يدها ثمّ ضغطت على أصابعه قائلة: بدأت تنقض عهودا قطعتها على نفسك دون داعي، أتظنّ أنّ الغزل يتمّ بالكلام فقط ؟ إنّ غزل العيون أشدّ وقعا من غزل الّلسان، بدأت تخسر الهدنة منذ الآن و لا أدري ماذا سيحدث بعد؟..  
     آه... لو لمْ اقطع عهدا على نفسي لقبّلتها حتّى يستوي الأحمر الورديّ بالأسمر البنّيّ و الأحمر القاني لتتشكّل لوحة الألوان من جديد و يصبح المشهد مغايرا لما قبل القبلة هكذا قال في تمتمة دون أن يعير اهتماما لتعهّداتها السّابقة ثمّ تذكّر في لحظة فارقة بأنّه وعدها بعدم التغزّل فقط و ليس بغير هذا،عندها همّ بها ليقبّلها دون سابق إنذار و لا دعوة، لمّا قارب وجنتها و أعلى شفتها أوقفت اقتراب شفتيه منها بكفّ يدها اليسرى بلطف لتضع حاجزا بين نقطة الخال و شفتيه فلم يجدْ بُدّا من أن يقبّل كفّ يدها علّها تتراجع تحت هول القبلة فينزاح  هذا الحاجز البلّوريّ الشفّاف من أمامه ليمرّ إلى موضع الرّماية تماما و ينهل من عين لا تجفّ. قالت بعد أن أوقفت زحفه نحو نقطة الخال: دعك من هذا الآن قد تركت لك مفاتيح مداخل المدينة أمّا مفاتيح مخارجها فهي لي...سيكون هذا لاحقا عندما تختبر المدينة و تكشف أبوابها و أنهجها و سرّها عندها فقط سيكون هذا ممكنا بل حقّ الغازي المجنون العاشق الذي ليس إلاّك... ستكون سلطان المدينة عندما يحين الموعد و أكون أميرتها بما يطفئ اللّهيب و يخمد الحريق يا "نيرون" روما و "طارق" الأندلس.                     
  تأمّلتْ شاشة الهاتف  ثم رفعت حاجبيها و بعدها أومأت برأسها و نظرت إلى النّافذة  كأنها تستطلع شيئا مّا، ثم قالت و علامات الأسف بادية عليها: لم يبقى من الوقت إلاّ بعضه بل و قليله، كم كان الوقت خفيفا و سريعا؟ كنت أعتقد أنّنا في بداية الظّهيرة لكنّ ساعة  الهاتف أيقظتني من هذا الحلم الجميل، أتدري ؟.. في بعض الأحيان أكره استطلاع السّاعة بل أشعر أنها عدوّ يسرق منّي ما هو عزيز عليّ، السّاعة الآن تسرقني منك و تسرقك منّي فكلانا مطمح لصّ اسمه الوقت لو كان بإمكاني لأعدت عقارب السّاعة إلى الوراء... لو كان بإمكاني...آه، لو كان بإمكاني. طأطأ برأسه قليلا لمدة لحظات كمن يعيد البناء من جديد  و يرتّب اللحظة حتى تستوي و ترتقي لمستوى صفاء اللّقاء و بعدها رفع رأسه ونظر في عمق عينيها وبقي شاخصا و قد عجز لسانه عن الكلام، ذبل وجهه و ظهرت تعابير لا حصر لها تدلّ على العجزين، العجز عن الكلام و العجز عن إيقاف السّاعة حتّى لا يرى للّقاء نهاية، رغم هذا ابتسم ابتسامة خفيفة كرفض للعجز و حتّى يظهر لها أنّه أقوى على التحمّل بل  و السّخرية والرّفض، سوف يخفي هذه المرارة بشجاعته المعهودة و يجعل من هذا اللّقاء الحفل الذي انتظره بكلّ هذا الوله لذلك أخفى كل ما يلقي كدرا على المكان و امسك بطرف أصابعها و وجّهها إلى الأعلى في دعوة للوقوف، تثاقلت عند قيامها كأنّ قوّة تمسكها و تمنعها من الوقوف  بعدها وقفا وجها لوجه فتورّدت مساحة خدّيها كحقل من شقائق النّعمان، لم تكن لتقوى على الكلام و انعقد لسانها و لم يبقى إلا حديث مكتوم تقوله العين و يسمعه القلب. قبّلها قبلة طويلة كالسكّر كان طعم شفتيها أو أحلى،تراجع قليلا إلى الوراء و مسك بيدها و ضمّهما لبعض ثمّ رفعهما إلى مستوى صدره و قبّلهما قائلا: أعتقد أنّني أسعد رجل في هذا اليوم بل إنّني أجزم بهذا فشكرا لك على ما وهبتني من متعة اللّحظة و طيب اللّقاء... قالت: إذا لتكن هذه قُبْلتك الأخيرة. قال: نعم سيكون لك ذلك لكن بالنّسبة لهذا اليوم فقط حتّى لا أُتّهم بخرق مواثيقي عهودي. ضحكت ثمّ قالت: هذا إذا كان للمحبّين مواثيقا و عهودا؟ سأرى...سأرى...  
   نظرت مليّا في وجهه كمن يأخذ جرعة ماء بارد في حالة عطش كافر ثمّ سحبت يدها من يده وضعتها على كتفه وداعبت بطرف أناملها أسفل ذقنه و قالت: أرجوك لا تأسف، أريد أن أتركك سعيدا، تماما كما وجدتك هذا الصّباح، سيؤلمني لو تركتك حزينا بعد كل هذه الفترة السّعيدة التي قضيناها معا، أعدك أنّني سأعود في أوّل فرصة سانحة، أقسم أنّني سأعود و سنقتسم مفاتيح المدينة مداخلها و مخارجها و سنكون أسعد ضيوفها، فقط جرعة صغيرة من الصّبر و نعيد تعهّد الحديقة بالورد الذي يكفي ليجعلنا أسعد العشّاق...


الحلاّج ...

(نصّ من سلسلة زرقة البحر ... و موعد، 2012 ربيعا  )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق